المزاح والمداعبة شئ محبب إلى النفوس ، فهو يبعث على النشاط والإقبال على الأعمال بجد وطاقة ،
ولا حرج فيه ما دام منضبطا بضوابط الشرع ، ولا يترتب عليه ضرر ،
بل هو مطلوب ومرغوب ، وذلك لأن النفس يعتريها السآمة والملل ،
فلا بد من فترات راحة ،
وليس أدل على أهمية المزاح والحاجة إليه ، مما كان عليه سيد الخلق وخاتم الرسل ،
فقد كان صلى الله عليه وسلم ، يمازح أصحابه ، ويداعب أهله ، وكان يعتني بصغار السن ويجعل لهم جزءاً من وقته ، ويعاملهم بما يطيقون ويفهمون .
فكان وجهه بشوشا" مبتسما"دائما" لا يضحك بالصوت العالى ولكن ضحكته تملآ شفتيه الشريفتين.
فكان يمزح مع الناس لكن بالحقيقه والصدق دون كذب ويوجد عدة امثله لذلك.
أتت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله ادع الله أن يدخلني الجنة فقال: يا أم فلان إن الجنة لا تدخلها عجوز قال فولت تبكي فقال: أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز إن الله تعالى يقول: { إنا أنشأناهن إنشاءا فجعلناهن أبكارا عربا أترابا } السلسلة الصحيحة
وعن أنس رضي الله عنه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ، احملني ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنا حاملوك على ولد ناقة. استغرب الرجل كيف يعطيه النبي صلى الله عليه وسلم ولد الناقة ليركب عليه، فولد الناقة صغير ولا يتحمل مشقة الحمل والسفر، وإنما يتحمل هذه المشقة النوق الكبيرة فقط ، فقال الرجل متعجباً: وما أصنع بولد الناقة ؟ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقصد أنه سيعطيه ناقة كبيرة، فداعبه النبي قائلاً: وهل تلد الإبل إلا النوق )، سنن أبي داود.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فبعث إلى نسائه فقلن : ما معنا إلا الماء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من يضم أو يضيف هذا ). فقال رجل من الأنصار: أنا ، فانطلق به إلى امرأته ، فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني ، فقال: هيئي طعامك ، وأصبحي سراجك ، ونومي صبيانك إذا أرادوا عشاء. فهيأت طعامها ، وأصبحت سراجها ، ونومت صبيانها ، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته ، فجعلا يريانه أنهما يأكلان ، فباتا طاويين ، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( ضحك الله الليلة ، أو عجب ، من فعالكما ). فأنزل الله: { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } رواه البخاري.
وعن أنس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا ، وكان لي أخ يقال له أبو عمير ، وكان إذا جاء قال : (يا أبا عمير ما فعل النغير ) رواه البخاري ومسلم . والنغير هو طائر صغير كان يلعب به .
وطعن صلى الله عليه وسلم مرة أحد أصحابه بقضيب في يده مداعبة له ، فعن أسيد بن حضير قال : بينما هو - يعني أسيد - يحدث القوم ، وكان فيه مزاح ، يضحكهم ، فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم في خاصرته بعود ، فقال : أصبرني - أي اجعلني اقتص منك - ، فقال : (اصطبر) ، قال : إن عليك قميصا ، وليس علي قميص ، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم عن قميصه ، فاحتضنه ، وجعل يقبل كشحه - ما بين الخاصرة والضلع - ، قال إنما أردت هذا يا رسول الله) رواه أبو داود ، وصححه الألباني.
وكان يبتسم صلى الله عليه وسلم في وجوه أصحابه ، ويسمعهم الكلام الطيب ، ويتقبل شكواهم بصدر رحب وأدب جم ، فعن جرير رضي الله عنه ، قال : ما حجبني النبي صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت ، ولا رآني إلا تبسم في وجهي ، ولقد شكوت إليه إني لا أثبت على الخيل ، فضرب بيده في صدري وقال: ( اللهم ثبته ، واجعله هاديا مهديا) . رواه البخاري.
وكان صلى الله عليه وسلم يمزح مع أقاربه ، فيأتي علياً ابن عمه وزوج ابنته ، وهو مضطجع في المسجد، بعد أن سأل عنه فاطمة رضي الله عنها ، فقالت كان بيني وبينه شيء فغاضبني فخرج ، فيقول له : (قم أبا التراب قم أبا التراب) . رواه البخاري ومسلم .
أما مزاحه مع أهله ، ومداعبته لزوجاته ، وبناته ، فكان لهم نصيب وافر من خلقه العظيم في هذا الجانب المهم ، فكان يسابق عائشة رضي الله عنها ، ويقر لعبها مع صواحبها فعنها رضي الله عنها قالت : (كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم وكان لي صواحب يلعبن معي فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل يتقمعن منه فيسربهن إلي فيلعبن معي) . رواه البخاري.
أما بالنسبة للصغار ، واعتنائه صلى الله عليه وسلم بهم، ومداعبته لهم ، فيظهر واضحاً جلياً فيما ورد مع الحسن والحسين رضي الله عنهما ،
فعن عبد الله بن شداد عن أبيه قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشاء ، وهو حامل حسنا أو حسينا ،
فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه ،
ثم كبر للصلاة فصلى ،
فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها ،
قال أبي: فرفعت رأسي، وإذا الصبي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو ساجد ، فرجعت إلى سجودي ،
فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال الناس : يا رسول الله إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر ، أو أنه يوحى إليك ،
قال : (كل ذلك لم يكن ، ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته) . رواه أحمد والنسائي وصححه الألباني.
ايضا" كان ينادى للآطفال يقول له يا ذو الاذنين فخاف الولد وسأل الرسول صلى الله عليه وسلم ان كانت اذنيه كبيرتين فقال له : هل يوجد احد بدون اذنين.
وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنهم قالوا يا رسول الله: إنك تداعبنا، قال: إني لا أقول إلا حقا.
فقد كان النبي يمزح ولا يقول إلا حقا ،وجاء في مختلف الحديث لابن قتيبة .. فلو ترك رسول الله طريق الطلاقة والهشاسة والدماثة إلى القطوب والعبوس والزماتة أخذ الناس أنفسهم بذلك على ما في مخالفة الغريزة من المشقة والعناء، فمزح ليمزحوا، ووقف على أصحاب الدركة وهم يلعبون فقال: خذوا يا بني أرفدة، ليعلم اليهود أن في ديننا فسحة..
وكان أصحابه رضوان الله عليهم يتأسون به ويقتدون بهديه وشكله.. كما :
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ
{الأحزاب: 21}
وروى الطبراني عن قرة قال: قلت لابن سيرين: هل كانوا يتمازحون -يعني الصحابة-؟ قال: ما كانوا إلا كالناس، كان ابن عمر يمزح وينشد الشعر. ومثله عن سعيد بن المسيب.
ومن ما روي من مزاحه كما في كنز العمال وغيره عن ابن عباس أن رجلا سأله: أكان رسول الله يمزح؟ قال: نعم. فقال رجل: ما كان من مزاحه؟ فقال ابن عباس: كسا النبي بعض نسائه ثوبا واسعا، وقال: البسيه واحمدي الله، وجري من ذيلك هذا كذيل العروس.
وفي سنن البيهقي وغيرها أن رجلا من أهل البادية كان اسمه زاهر بن حزام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه، وكان دميما،
فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يوما وهو يبيع متاعه في السوق فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصره، فقال: أرسلني من هذا؟ فلما عرف أنه النبي جعل لا يألو ما ألزق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه، وجعل النبي يقول: من يشتري العبد؟ فقال يا رسول الله: إذاً والله تجدني كاسدا، فقال النبي : لكنك عند الله لست بكاسد....
وكان أصحابه رضوان الله عليهم ربما مازحوه ففي غزوة تبوك كان في قبة صغيرة من أدم فجاءه عوف بن مالك الأشجعي فسلم عليه فرد عليه النبي وقال له: ادخل، فقال: عوف: أكلي يا رسول الله؟ قال: كلك. رواه أبوا دود.
فعوف رضي الله عنه يمازح رسول الله بذلك
ومن خلال ذلك يتبين مجال الفسحة في ديننا العظيم ، وأنه لا تعارض بين الجد والمرح أحياناً ، وكما أن في ديننا الإسلامي غذاء للقلوب والأرواح ، وتوجيهات لما يصلح الأجساد ، ففيه أيضاً ما يروح عن النفوس ، ويبعث فيها الفرح والسرور.
كما يبين تواضع النبي عليه الصلاة والسلام وحبه للمزاح دون افراط .