كان عبد القادر في الأربعينيات من عمره ،وقد وخط الشيب رأسه الذي حصد مقدمه بمنجل الزمان الحاد
المسنون، له أنف معقوف كنسر متوثب، وعينان منتفختان من كثرة السهر والنظر في قضايا الناس ،لم
يمر على زواجه من أمينة بنت خالته سوى عامين وكم يتمنى من أعماق قلبه لو رزق بمولود يملأ البيت
نشاطا وحيوية وزعيقا.
كان مكتبه يتواجد في قلب المدينة ويتنقل بشكل يومي من بيته إلى مقر عمله على متن سيارة مرسيدس
اشتراها حديثا من زميل له يعمل موظفا بوزارة البريد ،بعد أن كسب مجموعة من القضايا المتعلقة بطلاق
الخلع والشقاق والضرب والجرح .
كلما عاد من عمله ندت عنه كلمات صارخة: يخ أتفو أعلى ريحة ...
كان الدخان يتصاعد عاليا من محل السمك بمختلف أنواعه الذي طبقت شهرته الآفاق لجودة وطراوة ما
يقدمه للزبائن الذين يزدحمون على محله في أويقات الغذاء.
صك أسنانه كطاحونة فاررغة ، وقرن بين حاجبيه الكثين وعبس بوجهه الكالح ثم صاح:لابد من وضع
حد لمضايقات هذا البائع المأفون الذي حرم علينا فتح النوافذ وكأننا في معتقل مظلم كئيب لا يعرف
النور ولا تجديد الهواء.
صعد الدرج في استياء وتأفف إلى أن بلغ باب شقته الذي يوجد في الطابق الأول،وضع محفظته الجلدية
على الأرض ودق دقات متتالية على الباب ، فأطلت أمينة بوجه بشوش وحيته في حنان ورقة:على
سلامتك ياعبد القادر.
فرد عليها والحنق باد على وجهه :الله يسلمك يا زوجتي العزيزة.
دخل إلى وسط الشقة وألقى بالمحفظة فوق طاولة بالقرب من الباب ، ثم نزع حذاءه بعصبية ورماه
جانبا قرب خزانة الأحذية.
اقتربت منه زوجته وربتت على كتفه وقالت بنبرة حانية:مابك يا عبد القادر فحالك لا يعجبني؟
نظر إليها وقال في عصبية: لقد قهرتنا الرائحة النتنة وخنقنا الدخان المتصاعد دوما فإلى متى نصبر
على هذا الوغد الذي يزداد ثراء ، بينما نحن نعيش في هم وغم ودخان دائم يزكم الأنوف ويغرغر
العيون ويكتم الأنفاس العليلة.
ردت عليه مواسية:صبرا فدوام الحال من المحال ،فسيأتي اليوم الذي تنقشع فيه الغمة وتتبدد فيه
سحائب الدخان والمعاناة.
أدام النظر فيها طويلا وأطلق زفرة حارة وقال:إن ظل الجميع ساكنا ساكتا فدوام الحال هو ما سيكون.
أدخل رجليه في بلغته الصفراء وفتح الباب في قوة ، وأرخى العنان لرجليه تقودانه إلى محل
بائع السمك البغيض.
نادى بصوت عال وفي انفعال ظاهر :ألا ترحمنا من هذه الرائحة القاتلة ، أم أنه لا يهمك إلا نفسك؟
أطل عليه حميد بوجه كالح دائري ولحية كثة متناثرة ، وشارب طويل غير مشذب ، وعينان حمراوتان
تقدحان شررا ولهبا،فزعق بصوته الخشن الرنان:لا أحد يشكوأو يتضجرإلا أنت ،وكأني متزوج بأمك أو
استوليت على أموالك وأملاكك.
استفزت الكلمات عبد القادر فاستشاط غضبا وصاح واللعاب يقطر رذاذا من فمه:لعنة الله عليك أبد
الآبدين ، وكيف لا أشكو وشقتي في الطابق الأول ،وهي تقابل محلك المشؤوم الذي لم نعرف الراحة
والهناء منذ أن افتتحته .
يرفع حميد يده متحديا وقد انتفخت أوداجه كديك منتفش : افعل ما بدا لك ، فلا يهمني رغاؤك وهدرك
الفارغ ، وإذا وصلت أذني فاقطعها.
احمر وجه عبد القادر ، واتقدت عيناه كجمرتين ملتهبتين وصاح:سوف نرى من تقطع أذنه ،
ومن يضع أنف الآخر في الرغام ، والمحكمة هي الفيصل بيننا.
دخل حميد إلى محله بقامته الطويلة ، ومنكبيه العريضين، وصدره الواسع، وكرشه المنتفخة التي
تسبقه وكأنها بطن عنكبوت أتخم من كثرة مص ماء الحياة من عروق الضحايا.
خرج عبدالقادر كعادته باكرا وألقى تحية صباح ملؤها السخط والتبرم ، وبالغ في الذم والقدح ، فأطل
حميد من دكانه كثور هائج أثاره الضوء واللون الأحمر ، ورفع عقيرته متحديا:لاتطل الكلام الذي لا يجدي
وإن كنت رجلا فعلا فواجهني .
نظر إليه عبد القادر شزرا ، وألقى محفظته في الهواء، ثم اتجه إلى خصمه اللذوذ ، فاشتبكت الأيادي
وتوالت اللكمات والضربات من الجانبين ، فسالت الدماء وتعالت الزفرات وتورمت الأيادي والوجوه،
فأمسك حميد بعبد القادر علىحين غرة ، وهزه هزا عنيفا وألقاه بقوة على الحائط السميك ، فارتطم
رأسه بنتوءات سارية ضخمة ، فندت عنه صيحة رهيبة ، وسقط على الأرض مدرجا في دمائه
الحارة القانية دون حراك.
بهت حميد للمنظر المريع ، فأرخى ساقيه للريح فرارا من جريمة شنعاء ، مصيرها الحتمي
السجن المؤبد مدى الحياة.